لماذا ملحق «رأس المال»؟
محمد زبيبيكاد «الاقتصاد» يغيب تماماً عن اهتمامات الأدب السياسي المنشور باللغة العربية، ولا سيما في الصحافة. يعاني المثقفون العرب من قصور واضح في مقاربة قضايا الاقتصاد عموماً، يهملون الحقائق الاقتصادية غالباً، ولا يهتمون كفايةً بقراءة المؤشرات والأرقام وتفاعلاتها مع السياسة والاجتماع والثقافة. يتركون هذه المهمة لأصحاب الاختصاص، كما لو أن الاقتصاد مسألة تقنية فقط، ويخلون الساحة لنوع من الميكانيكيين «الأداتيين»، يُطلق عليهم صفة «خبراء»، ولكن أكثرهم لا يفعل سوى تفسير الماء بالماء، بدءاً من الجامعات ومراكز الدراسات، وصولاً إلى الإعلام.
تلعب الصحافة العربية دورها في تكريس هذه الغربة عن الاقتصاد وتساهم بتنفير الناس العاديين منه. فهي لا توليه الأهمية التي يتمتع بها، وتفصله كلياً عن السياسة، أو تتعامل معه بوصفه محتوى قابلاً للبيع والمتاجرة. قد لا ينطبق ذلك بدقّة على جميع التجارب، إلا أن السمة الغالبة على الصفحات الاقتصادية في الصحف وعلى الإنترنت والدوريات المتخصصة هي الاستغراق في التعبير عن مصالح «رأس المال» حصراً، بالمعنى الضيّق للكلمة، أو بمعناها الدنيء، أي الذي يغلّب المصالح الخاصة على المصلحة العامّة، ويهلّل للأرباح وتعاظم الثروات الشخصية، بتصويرها إنجازات تستحق الاحتفاء، حتى ولو تحققت على حساب الأجور ومستوى دخل غالبية السكان، بل وعلى حساب تراكم الرأسمال نفسه في الاقتصاد الحقيقي وزيادة الأصول الرأسمالية وثروة المجتمع والأفراد والأجيال المقبلة.
تزعم الصحافة الاقتصادية طابعها العلمي، أو التخصصي بالمعنى الأدق، لذلك تنشئ الصحف أقساماً وصفحات مستقلة لها، ولكن ما يحصل في الواقع، أن هذه الأقسام والصفحات، وفي أغلب التجارب، لا تقوم بأكثر من وظيفة الـ press release، سواء عبر الترويج المباشر للأفكار والآراء والمعلومات والأخبار والبيانات التي تصدر عن المؤسسات ومنظمات الأعمال والمديرين التنفيذيين ومقدمي الخدمات الاستشارية، أو التي تساهم في تلميع صورتهم وتبرير ممارساتهم، أو عبر تقديم مجموعات الضغط والشركات الكبيرة، ولا سيما الاحتكارية، والمضاربين في الأسواق المالية والعقارية، بوصفهم الناطقين الرسميين باسم الاقتصاد، يحتكرون تمثيله دون الجميع ويقدمون مصالحهم باعتبارها التجسيد الأوحد لمصلحته، وبالتالي مصلحة المجتمع ككل، أو عبر إغراق المحتوى الصحافي الاقتصادي بمفردات وطلاسم وأرقام، لا يفهمها حتى الذين يحررونها.
الأدب الاقتصادي لا يمكنه إلا أن يكون أدباً سياسياً، كما الاقتصاد نفسه هو اقتصاد سياسي. لذلك، يُتوقع من الصحافة الاقتصادية أن تكون صحافة سياسية، بمعنى أن تقدّم المحتوى الصحافي الاقتصادي بوصفه يعني جميع فئات القراء، لا فئة ضئيلة منهم، ويعكس بالتالي اختلاف مصالحهم انطلاقاً من اختلاف مواقعهم الاجتماعية والمهنية.
لا ينبغي أن تتعامل الصحافة مع النقود والأسعار والأجور والدخول والثروات والاستثمارات وتوزّع الناتج المحلي على القطاعات الاقتصادية والفئات الاجتماعية، وسوى ذلك من معطيات كمية ونوعية، كما لو أنها معطيات مستقلة، تتبع منطقها الخاص، ولا تتفاعل مع المنطق السياسي أو الثقافي. يصف توماس بيكيتي، في ختام مؤلفه الشهير «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، مسألة فصل الاقتصاد عن السياسة بأنها وهم. إذ «تكفي نظرة سريعة إلى المنحنيات الخاصة باللامساواة في الدخول والثروات أو نسبة رأس المال إلى الدخل، حتى يتبين أن السياسة حاضرة بقوة، وأنه لا يمكن فصل التطورات الاقتصادية عن التطورات السياسية».
التراكم اللانهائي لرأس المال هو السمة الأبرز للنظام الرأسمالي، بالإضافة إلى ميل معدل الربح إلى الانخفاض والمزاحمة بين الرأسماليين للاستئثار بفائض القيمة الناتج من العمل أو من الاستهلاك، تختصر هذه السمات معضلة أي نظام يقوم على الملكية الخاصة واستغلال العمل، وهي معضلة تصبح أكبر في ظل «أمولة الرأسمالية» وتضخم القطاع المالي وطغيان الريع على الإنتاج وتسويغ الفساد «الحميد» المحفّز للاستثمارات الخاصة. ما يحصل في ظل نظام كهذا أن كلفة الرفاهية التي يعد بها تصبح هي نفسها باهظة وتقصي فئات واسعة من أي منفعة منها. فحصة رأس المال من الناتج ترتفع باطّراد وتزداد تركّزاً لدى عدد يتضاءل من أصحاب الثروات الخيالية، وفي المقابل تنخفض حصة الأجور، التي تشكّل مصدر الدخل الأساسي لغالبية السكان، وبالتالي مصدر الطلب الرئيس على السلع والخدمات. لذلك، يسود خوف عارم في العالم كله من حدوث حالة من الكساد المزمن في المستقبل، «يصبح فيها النمو الشديد التباطؤ هو القاعدة الجديدة وليس الاستثناء».
هل توجد حقاً حلول تقنية لهذا النوع من المعضلات؟ هل هذه الحلول توجد أصلاً خارج الدولة؟ ثبت أنّ السوق الحرّة هي مجرد خرافة، فالدولة ليست محايدة، بل بالعكس هي كثيرة التدخل إلى درجة الوقاحة، إذ إن وظيفتها التدخلية باتت مخصصة لتأمين مصالح رأس المال وتحميل المجتمع كله كلفة مخاطره ومكاسبه من خلال الضرائب والديون والخصخصة والشراكة مع القطاع الخاص والدعم المالي وعمليات الإنقاذ والهندسات وتسخير الحيّز العام للغايات الربحية. كيف للصحافة الاقتصادية أن تكون مستقلة أو حيادية إزاء هذه الحقائق؟
لن يزعم ملحق «رأس المال»، الذي يصدر مع «الأخبار»، اعتباراً من اليوم وكل يوم اثنين من كل أسبوع، التخصص ولا الحيادية ولا الاستقلال عن السياسة ومأربها، بل بالعكس تماماً، فهو يطمح إلى توسيع دائرة المهتمين بالسياسة بوصفها «اقتصاداً مكثفاً»، بحسب تعبير لينين، وسيسعى إلى توسيع دائرة المساهمين في إنتاج المحتوى بلغة علمية، ولكن بسيطة وسهلة ومفهومة. سيحاول أن يوفّر أكبر قدر ممكن من المعلومات ويقدّمها بمساعدة الأدوات البصرية والفنية، وسيعمل أيضاً على جذب أكبر عدد ممكن من الكتّاب والباحثين والخبراء وأساتذة الجامعات والنقابيين والسياسيين وسائر المشتغلين في الشأن العام، لتقديم مقارباتهم والتعبير عن آرائهم ووضع سجالاتهم وتحليلاتهم في متناول أكبر عدد ممكن من القراء. سنخوض هذه التجربة المهنية، على الرغم من ضعف الإمكانات والموارد المتاحة وضعف الثقافة الاقتصادية عموماً، مراهنين على نجاحها وتطورها.كبار المودعين: من هم؟ كم يملكون؟
0.8% فقط من أصحاب الحسابات الكبيرة في المصارف اللبنانية يستحوذون وحدهم على اكثر من 51.8% من مجمل الودائع، في حين أن 60.5% من الزبائن لا تتجاوز حصّتهم 0.5% من هذه الودائع! هذا ما تكشفه أحدث إحصاءات رسمية صادرة عن مصرف لبنان
قبل 20 سنة، توقّف مصرف لبنان عن نشر الإحصاءات المتعلقة بتركّز الودائع في لبنان بصورة رسمية ودورية. باتت هذه المعلومات بمثابة «الأسرار الحسّاسة» التي يجب إخفاؤها عن الجميع، ما عدا، طبعاً، فئة معينة، تواظب على مطالعتها بحكم عملها وموقعها ونفوذها، تضم المصرفيين وكبار المودعين، وبعض السياسيين النافذين والمؤسسات المالية الدولية، والشركات الخاصة الكبرى، التي تدير الثروات الشخصية أو تبيع خدماتها الاستشارية للمستثمرين والمضاربين، بالاضافة إلى حاكمية مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف وبعض الموظفين فيهما.
بمعنى ما، لا يطلع على هذه المعلومات ويراقبها ويحللها ويقيس درجة مخاطرها إلا الذين يمتلكون الودائع، هم أنفسهم ومن يعمل لمصلحتهم في الإدارة والمهن والوظائف المختلفة، أي، بمعنى أوضح، أولئك الذين باستطاعتهم تهديد «النظام» دائماً، وحتى تدميره، إذا ما قرروا سحب ودائعهم أو المضاربة على سعر صرف الليرة.
في الواقع، قد لا يتعدى عدد هؤلاء «الخطرين» 103 من كبار المودعين، فقط لا غير، تزيد ودائع كل منهم على 50 مليون دولار، ويملكون وحدهم 12 ملياراً و486 مليون دولار، أي ما يوازي ربع الناتج المحلي الإجمالي تقريبا، و7.5% من مجمل الودائع، أو 30% من مجمل موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية.
هذا ما تكشفه الإحصاءات الرسمية الأحدث لدى مصرف لبنان، المسربة إلى «الأخبار». ففي نهاية كانون الأول الماضي، كان يوجد 34 مودعاً في المصارف اللبنانية، تزيد ودائع كل منهم على 100 مليون دولار، وبلغ مجموعها 7 مليارات و949 مليون دولار، وهو رقم يعادل، على سبيل الدلالة، نصف قيمة مجمل الأجور المحققة في الاقتصاد المحلي في عام 2017. أي إن ودائع 34 شخصاً فقط تساوي نصف الدخل السنوي لأكثر من مليون ونصف مليون ناشط اقتصادي.
بالإضافة إليهم، كان يوجد أيضاً 69 مودعاً، يمتلك كل منهم ودائع تراوح بين 50 مليون دولار و100 مليون دولار، وبلغ مجموعها 4 مليارات و537 مليون دولار، أي ما يساوي مجمل الرواتب والأجور في الموازنة العامّة، التي تمثل الدخل الأساسي لاكثر من 200 ألف شخص يعملون في الإدارات العامة والتعليم الرسمي والقضاء والجيش والأجهزة الأمنية.
بحسب هذه الإحصاءات، بلغ عدد عملاء المصارف في تشرين الثاني الماضي مليونين و892 ألفاً و484 عميلاً، وبلغ مجموع ودائعهم 164 ملياراً و586 مليون دولار، معظمها بالدولار ولآجال قصيرة، و20% منها لغير المقيمين. هذه الودائع أكبر بـ315% من مجمل الناتج المحلي، وهي درّت على أصحابها فوائد وعمولات بقيمة 7 مليارات و500 مليون دولار، بالإضافة إلى 4 مليارات و500 مليون دولار للمصارف، أي 12 مليار دولار في أقل من سنة، وهو رقم يزيد على مجمل الإيرادات الضريبية وغير الضريبية التي جبتها الدولة في السنة الماضية كاملة.
تكشف هذه الإحصاءات أن 85.7% من مجمل الودائع تتركز لدى عدد قليل جداً من المودعين، لا يتجاوز 231 ألفاً و898 مودعاً يمتلك كل منهم وديعة تفوق قيمتها 100 ألف دولار، يمثل هؤلاء 8% فقط من مجمل المودعين ونحو 6% من مجمل الراشدين المقيمين في لبنان، ويستحوذون على 141 ملياراً و107 ملايين دولار.
صنّف صندوق النقد الدولي الحسابات المصرفية التي تتخطّى ودائعها الـ100 ألف دولار في خانة الودائع الأقل استقراراً، لكون معدّل التركّز في حساباتها بالعملات الأجنبيّة أعلى من الحسابات في الليرة اللبنانيّة، ولكون ربعها تقريباً لغير المقيمين، وهناك نحو 60% من إجمالي هذه الودائع تستحق في أقل من 30 يوماً. هذه المخاطر تزداد كلما ازداد التركز في شرائح الودائع الضخمة، وتكشف الإحصاءات نفسها أن 3273 مودعاً، يمتلكون ودائع تفوق قيمتها 5 ملايين دولار، ولا يمثلون إلا نسبة ضئيلة لا تتجاوز 0.1% من المودعين، يستحوذون وحدهم على أكثر من 46 مليار دولار، أو ما نسبته 27.9% من مجمل الودائع. أمّا الذين تفوق ودائعهم 20 مليون دولار، فلا يتجاوز عددهم 459 مودعاً، يمثلون نسبة 0.01% من مجمل المودعين، ويستحوذون وحدهم على 21 ملياراً و742 مليون دولار، وما نسبته 13.2% من مجمل الودائع.
في المقابل، تكشف الإحصاءات أن في المصارف مليوناً و749 ألفاً و104مودعين، يشكلون 60.5% من مجمل المودعين، لا يمتلكون فعلياً أي ودائع تذكر، إذ تضم هذه الشريحة الودائع التي تقلّ عن 5 ملايين ليرة (نحو 3300 دولار)، ولا يمثل مجموعها سوى 0.5% من مجمل الودائع، ويمكن التكهّن بأن أكثريتها الساحقة تعود إلى موظفين وأُجراء في القطاعين العام والخاص، المجبرين على فتح حسابات مصرفية لتوطين أجورهم، فضلاً عن المقترضين الصغار الذين يضطرون إلى ذلك كشرط من شروط الحصول على قروض سكنية وتعليمية واستهلاكية.
للتواصل capital@al-akhbar.com
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | mzbeeb@
Data
Title: لماذا ملحق «رأس المال»؟Link: http://www.lcparty.org/index.php?option=com_content&view=article&id=15581:2018-03-05-22-52-10
Source: الصفحة الرئيسية
Organization: wmatta@assafir.com (الادارة)
Date: March 05, 2018 at 11:47PM
Actions
Translate original to: En | Es | Fr | De | Pt | Gr | Ca | +Share original with: Twitter | Facebook | Google +
Labels: Lebanese Communist Party, Lebanon, Parties