فلسطين تبقى البوصلة
أمين قمورية
على رغم أنهم لوحدهم مرة أخرى، خاض أهل القدس لوحدهم نضالاً شعبياً ضارياً في الدفاع عن مدينتهم، في مواجهة المشروع الاستيطاني الإسرائيلي الذي يسعى إلى ابتلاع المدينة بالكامل، ويكاد يسحب ما تبقى من سيادة جزئية عليها. فالأنظمة العربية غائبة، متواطئة، عاجزة وبعضها متآمر، والسلطة الفلسطينية تنحت عن قيادة الثورة الفلسطينية منذ سنوات طويلة، وباتت نظاماً سلطوياً تابعاً، ومشلول الإرادة والروح، أرسي مناخاً ساهم في تمادي الغي الإسرائيلي وازدياد شهيته للنهب، والسيطرة والحصار.
سقط رهان إسرائيل؛ سقط عندما اعتقدت أن القدس لقمة سائغة تستطيع ابتلاعها. ظنت أن القمع والتنكيل المتمادي منذ احتلالها عام ١٩٦٧ سيكسر شوكتها وقدرتها على الصمود، وأن التهميش الذي تعانيه المدينة وأهلها من السلطة الفلسطينية والفصائل سيوهن عزيمتها، وأن التجاهل العربي المزمن لقضيتها والتطبيع الذي بلغ ذروته في الأيام الأخيرة سيحبط شيبها وشبابها ويدفعهم إلى الإستسلام لقرار نتنياهو بتهويدها وفصلها عن أمتها وسلبهم إياها.
الاحتلال المصاب بالغطرسة وعقدة التفوق وفائض القوة ومقولات أن الفلسطيني الذي يخضع للقوة يخضع بالمزيد من القوة اعتقد أن الفرصة ملائمة لوضع يده على أعز مكان على قلوبهم. لكنه لم يكن يدرك عمق روح المقاومة والصمود المتجذرة فيهم ومدى تمسكهم بأرضهم وبالقدس وفلسطين.
وكل من تابع الأوضاع في القدس المحتلة على مر الأيام الماضية والإصرار المقدسي على رفض البوابات المعدنية، شعر أن الإنفجار في القدس آتٍ، وهو انفجار لن يكون بمقدور أي قوة من منعه. أحداث ومواجهات القدس أعادت إلى الأذهان ذكريات الإنتفاضة الأولى، فالغضب المتولد من القهر والاستخفاف بالمقدسيين يذكر بحالة الغضب نفسها في بداية تسعينيات القرن الماضي، وملامح التحدي والإصرار في وجوه شبان اليوم وبعضهم من جيل أوسلو، هي هي ملامح رماة الحجارة في الانتفاضتين الأولى والثانية.
منع المقدسيين من دخول المدينة القديمة، والإصرار على إذلالهم وإخضاعهم للتفتيش، أعاد القدس إلى أجواء الإنتفاضة الأولى، بفارق مهم هو تراجع دور الحركات الوطنية في المدينة. وأنذرت ببركان قد ينفجر في كل لحظة، في وجه صلف الاحتلال واستفزازات جنوده وعناصر حرس الحدود فيه للناس، عند كل شاردة وواردة. فالحكاية لا تقف فقط عند منع أهل القدس من الصلاة في الحرم المقدسي هي أيضاً تراكمات الاضطهاد المتواصل، وسط غياب كلي لأي بصيص أمل في الأفق. لكن أهل القدس هم الأمل المنشود والجيش الموعود. صحيح أنهم فقدوا النصرة والنصير وفقدوا المرجعية الوطنية التي تتولى أمرهم لكنهم لم يفقدوا الأمل.
إسرائيل التي دفعتها عنجهيتها في بداية الحراك إلى القول بأنّ السيادة على الأقصى "جبل الهيكل" لن تكون إلاّ إسرائيلية، وبأن تركيب البوابات الإلكترونية على أبوابه، جزء من هذه السيادة، وأنه لا تراجع عن استمرار بقائها، سرعان ما أدركت أن عدم تراجعها ونزولها عن الشجرة، سيضعها أمام خيارات أصعب، ليس من خلال ما قامت به السلطة من تجميد للإتصالات معها، وبما يمس بأمن دولة الإحتلال وانفجار الأوضاع في الضفة الغربية، بل الخشية أن تدفع حالة الصمود المقدسي والمشاركة الجماهيرية الواسعة في كل أشكال النضال الشعبي والجماهيري إلى فقدان سيطرة الإحتلال على الأوضاع، والذهاب بهذه الهبة نحو طور وشكل أعلى من الحجارة والزجاجات الحارقة، والأخطر من ذلك هو خلق قيادة ميدانية جديدة تتصدر القرار والمشهد بدل القيادة الحالية، قيادة صلبة وعاكسة لتوجهات الشارع ونبضه متمسكة بثوابت وحقوق الشعب الفلسطيني، رافعة لسقف المطالب الفلسطينية، معيدة فلسطين إلى مكانتها في القلوب والعقول والضمائر. قيادة تكون صاحبة رأي وقرار، وليس مجرد حضور شكلي أو غير فاعل لا يعبر عن إرادة المقدسيين خصوصا والفلسطينيين عموما ولا يعكس حقيقة مطالبهم، والمتطلبات الحقيقية لتعزيز صمودهم وبقائهم في قدسهم وعلى أرضهم.
ما كان يحصل في ظل القيادة الفلسطينية الحالية أوجد الفلسطينيين في غربة عن المشروع السياسي المتمثل في سلطة اوسلو وهو الذي تآكلت شعبيته بعد فشل المغامرة برمتها، وتحويل إسرائيل السلطة إلى مجرد أداة أمنية تخدم السياسات الإسرائيلية الاستيطانية أولاً وأخيراً. السياسة المُنتجة من أوسلو وسلطتها جعل الفلسطينيين ينفرون من قيادتهم التي فرضت نفسها عليهم بالإكراه والاجبار ويبتعدون عنها، وانتهوا مُحيدين ومعهم أي فعل شعبي حقيقي إما طوعا أو كرهاً. أيضاً المشروع المقاوم الذي مثلته حماس قاد أيضاً إلى تحييد غالبية الفلسطينيين، سواء بسبب عمليات حماس الإنتحارية في المرحلة الأولى، أو تحولها إلى انماط عسكرية وصاروخية أخرى في مراحل لاحقة. في كل هذه المراحل لم يكن للناس العاديين أي مجال للمشاركة في مثل هذا النوع من المقاومة المسلحة، فضلاً عن التخوف المتوقع، وبالتالي تم إخراج غالبية الفلسطينيين من ميدان "المقاومية" كما كانوا قد أخرجوا من ميدان السياسة. وفي الحالتين السياسية والمقاومة تسيد الوضع الفلسطيني من ناحية عملية الوضع الجبروت والغطرسة الإسرائيلية (الأميركية) سواء سياسياً ضد سلطة أوسلو أو عسكرياً ضد مقاومة حماس، وذلك في سياق ميزان قوى تقليدي كان يحسم الصراعات السياسية والمعارك العسكرية سلفاً. لا يكسر أي ميزان قوى تقليدي سوى اجتراح قوى غير تقليدية وفرضها على الصراع، وأهمها في الحالة الفلسطينية قوة المقاومة الشعبية ضد سياقات الإحتلال العسكري الاستيطاني كالإسرائيلي. خبر الفلسطينيون هذه القوة بالغة التأثير في الإنتفاضة الأولى 1987 إلى 1992 والتي كان أثرها مدوياً، كما كانوا قد خبروها في النصف الأول من القرن العشرين في ثوراتهم ضد البريطانيين والمشروع الصهيوني معاً، سواء في ثورات عقد العشرينيات أو ثورة 1936. في كل مرة كان تدخل فيها السياسيون في هذه الثورات، إما بهدف "التهدئة"، أو استجابة ساذجة لوعود من القوى المحتلة، أو لإستعجال قطف ثمار غير ناضجة، أو لإمتطاء موجات الإنتفاضات الشعبية كقيادات تخشى مواقعها من صعود قيادات ميدانية بديلة، في كل هذه الحالات كانت الانتفاضات تُجهض. وفي كل مرة كان يدخل فيها السلاح بقوة على العمل الشعبي لأهداف متعددة أيضاً أو بشكل يستعجل الثمار، غاو سقوطاً في إغواء السلاح ذاته، كان الثمن الباهظ هو خروج الناس من المقاومة واقتصارها على مجموعات مبعثرة من المقاومين المسلحين الذين سرعان ما يتم محاصرتهم والسيطرة على مقاومتهم عسكرياً، أو توظيفها سياسياً.
انتفاضة القدس تعيد تدوير الدرس التاريخي للفلسطينيين مرة أخرى: المقاومة الشعبية تشل ميزان القوى العسكري التقليدي، وإستدامة عشرات ألوف الناس في الشوارع تجمد الرصاص سواء في سلاح المُحتل أو سلاح المُستبد الذي بات مكشوفاً في الوقت الحالي تحت ألوف الكاميرات التي تنقل الحدث حياً وعلى الهواء. مقدسياً إذن، غابت القيادات السياسية الحزبية الفلسطينية والسلطوية عن المشهد فلم يكن هناك مجال للمساومات السياسية وممارسة احتكار السياسة كما هو الديدن خلال ربع قرن من المفاوضات والسلطة العقيمة، بما يؤدي إلى إقالة الناس إلى بيوتهم تحت مخدر ان القيادة تقوم بالواجب. كما غابت القيادات "المقاومية" ومعها أنماط المقاومة الانتحارية التي قد تؤذي فرداً من أفراد العدو هنا أو هناك لكنها توفر له المسوغ لإطلاق وحشه العسكري والقمعي بلا حدود، وكان لغياب محتكري السياسي ومحتكري المقاومة الأثر الكبير في بقاء الناس في الشوارع وفي تجميد الوحش العسكري وشل قدرته.
وهكذا، فإن جانباً مريراً من المفارقة الكبرى في الإنتصار المقدسي الراهن على إسرائيل يكمن في غياب القيادات السياسية السلطوية الرسمية، والقيادات المقاومية "الرسمية": القدس التي لا تخضع لسلطة رام الله ولا تخضع لسلطة غزة هي التي تنتفض شعبياً وتجبر العدو على التراجع. الفلسطينيون الخاضعون لسلطة رام الله ولسلطة غزة لا يستطيعون الإنتفاض شعبياً لأن قيادات المكانين احتكرت السياسة والمقاومة، وأخرجت الفلسطينيين ومقاومتهم الشعبية من قلب الحراك والنضال ضد المحتل.
ما حصل في الأسبوعين الماضيين، يُؤكد مره أخرى أن فلسطين هي البوصلة، وهي القادرة على توحيد الشعب والأمة، وقضيتها تستطيع أن تهز ضمير العالم إذا ما أجدنا إدارة نضالنا وأحسنّا بناء خطابنا السياسي؛ هل يتحقق ذلك؟ هذا هو التحدي الراهن. والأكيد أن القدس لن تسقط وستبقى العنوان.
Data
Title: فلسطين تبقى البوصلة / امين قمورية - مجلة النداءLink: http://ift.tt/2wmAeLU
Source: الصفحة الرئيسية
Organization: wmatta@assafir.com (الادارة)
Date: August 07, 2017 at 02:12PM
Actions
Translate original to: En | Es | Fr | De | Pt | Gr | Ca | +Share original with: Twitter | Facebook | Google +
Labels: Lebanese Communist Party, Lebanon, Parties